أحداث تاريخية
أحداث سنة الرحمة وسنة السخونة وموت الآلاف في جزيرة العرب قبل 100 سنة
طالما عانت الجزيرة العربية من سنوات انتشرت فيها الأوبئة والأمراض التي فتكت بأرواح الكثير من الرجال والنساء والأطفال، إلا أن سنة 1337هـ كانت سنة غير عادية إذ تفشى فيها الوباء وحصد أرواح مئات الألوف من البشر وعم كافة أرجاء الجزيرة العربية بل العالم بأسره، ولم يسلم منه إلا القليل.
يقول الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن: «وكان عاماً في نجد والأحساء والعراق وجميع المدن على الخليج العربي» ا.هـ (تذكرة أولي النهى والعرفان ج2/ 256)، ويقول إبراهيم بن محمد القاضي: «وفي هذه السنة أوقع الله بالجزيرة العربية كلها البادية والحاضرة مرض وانتقصت الجزيرة بنفوس عديدة.. مبتدأه من جنوب من جهة الأحساء وأشمل إلى عنزة والأسلم» ا.هـ (خزانة التواريخ النجدية). ومن شدة هول هذا الوباء أطلق الأجداد على هذه السنة التي انتشر فيها المرض بسنة (الرحمة)، وسنة (الصخونة)، وقد فسر بعض الباحثين سبب هذه التسمية لكثرة الترحم على الموتى، ولأنه هذا الوباء كان يصاحبه ارتفاع كبير في درجة حرارة المريض، يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: «ولقد حُدّثنا أنه حدث في هذه البلاد – أي البلاد النجدية – حدث فيها وباء عظيم تسمى سنته عند العامة سنة الرحمة» ا.هـ (شرح رياض الصالحين (ج1/ 178)، ويقول أمين الريحاني: «تدعى هذه السنة في نجد سنة الرحمة وهي الوافدة الإسبانية التي غزت العالم بعد الحرب» ا.هـ (تاريخ نجد الحديث ص265)، ويقول الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن: «هذه السنة يؤرخ بها أهل نجد ويعرفونها بسنة الرحمة» ا.هـ (تذكرة أولي النهى والعرفان ج2/ 256).وقد اختلف المؤرخون في توقيت بداية المرض فمنهم من ذكر بأنه في شهر محرم كالشيخ محمد بن علي آل عبيد، والبعض الآخر في شهر صفر كما عند الشيخ إبراهيم بن عيسى والشيخ صالح بن عثمان القاضي، ولعل هذا الاختلاف عائد إلى وقت فشو المرض في بلد المؤرخ، يقول الشيخ محمد بن علي آل عبيد: «ثم دخلت سنة 1337هـ وفي أول هذه السنة من شهر محرم ابتدأ الوباء بنجد فدام ما يقرب من أربعين يوماً وحصل فيه موت كثير من النساء والأطفال والرجال وكانت هذه السنة تسمى سنة الرحمة» ا.هـ. (النجم اللامع للنوادر جامع)، ويقول الشيخ إبراهيم بن عيسى: «وفيها حصل وباء عظيم، وعم جميع البلدان، وهلك فيه أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقع عندنا في بلدان الوشم، وسدير، وجميع بلدان نجد، في خامس عشر من صفر من السنة المذكورة إلى سابع مربيع الأول» ا.هـ. (خزانة التواريخ النجدية)، ويقول إبراهيم بن محمد القاضي: «ابتدأ هذا المرض في عنيزة في سلخ صفر وخف في عشرين ربيع الأول، وارتفع بآخر الشهر ما بقي له أثر» ا.هـ (خزانة التواريخ النجدية)، وتقول الروايات الشفهية التي تناقلها الآباء عن الأجداد أن أعداد الموتى فاق المئات ووصل إلى الألوف حتى أنه أباد مدناً بأكملها، لدرجة أن النعوش تكسرت؛ من كثرة الموتى واستعانوا بأبواب المنازل والبسط في نقل الموتى إلى المقابر، وكان شغل الناس في ذلك الوقت حفر القبور حتى أن المحسن منهم من يقضي طوال يومه في حفر القبور لا يشغله عن ذلك إلا وقت الصلاة، أو لقيمات تعينه على عمله، يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: «وحُدثنا أنه قدم هذا المسجد – مسجد الجامع الكبير بعنيزة – وكان الناس بالأول في قرية صغيرة، ليس فيها ناس كثير كما هو الحال اليوم، يُقدم أحياناً في فرض الصلاة الواحد سبع إلى ثمان جنائز» ا.هـ (شرح رياض الصالحين ج1/ 178) ويقول الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن: «هلك بسببه في قلب الجزيرة العربية ألوف من الأنفس البشرية وكان عظيماً وفشى المرض في الناس وقل من يسلم منه وقد ذكر لنا عن شخص أصابه ذلك المرض فسلم قال إني رأيت فارساً أقبل عليّ وبيده رمح فأراد أن يطعن قلبي فأخطأه إلى الجنب الأيسر» ا.هـ، ويقول أيضاً وبسببه هجرت مساجد وخلت بيوت من السكان وهملت المواشي في البراري فلا تجد لها راعياً ولا ساقياً» ا.هـ (تذكرة أولي النهى والعرفان ج2/ 256)، ويقول عبدالله بن محمد البسام: «وفي هذه السنة وقع في بلدان نجد وباء عظيم وعم جميع بلدان نجد والعربان ومات فيه خلائق لا يحصيهم إلا الله» ا.هـ (تحفة المشتاق ص416)، ويقول إبراهيم بن محمد القاضي في ذكر أعداد الموتى: «بلغت في عنيزة قريب الألف وفي بريدة كذلك قريب الألف نفس» ا.هـ (خزانة التواريخ النجدية)، ومن مشاهير من مات في هذا الوباء الأمير تركي بن عبدالعزيز الابن البكر لجلالة المؤسس، ووكيل بيت مال شقراء الشيخ عبدالله بن محمد السبيعي، يقول الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى: «ومات من أهل شقراء نحو ثلاثمائة وعشرين نفساً، منهم عبدالله بن محمد السبيعي وكيل بيت المال من جهة الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، ومات من أهل الرياض نحو ألف نفس منهم تركي بن الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل، وأخوه فهد» ا.هـ (خزانة التواريخ النجدية).
وفي سبيل مكافحة مثل هذه الأمراض وخصوصاً الوبائية منها كان الأجداد يقومون بعزل المرضى في بيوت وأماكن في أطراف البلدة أو خارج أسوارها حتى لا يختلطوا بالأصحاء، كما أنهم يأخذون من صديد المرضى ويقومون بتطعيم بقية الناس بطرق بدائية، وبذلك يتم الحد من انتشار المرض، وكان التداوي بالأعشاء والتركيبات الدوائية من الطرق التي استخدمها الأجداد في مكافحة الأمراض، وفي حال بداية تشافي المريض (فترة النقاهة) وخصوصاً في الأمراض الوبائية يتم جمع عينات من جميع الأطعمة المتوفرة في البلدة وتطبخ في إناء واحد وتسمى (القِرُو) يأكلها المريض أو يشرب ماؤها المطبوخ كنوع من الحيطة اعتقاداً منهم بأنه في حال تناول أصناف أخرى من الأطعمة التي لم يتم طبخها في القرو فإن المريض يحصل له مضاعفات وانتكاسة في المرض، وللاستزادة يرجع لكتاب «نجد في الأمس القريب» للأستاذ عبدالرحمن السويداء، ومن باب – الشيء بالشيء يذكر – ففي وصف أحداث انتشار الأمراض الوبائية ومنها مرض الجدري يحدثني والدي الشيخ محمد بن زيد العرفج – أطال الله في عمره على الصحة والطاعة – قائلاً: «كنت مما أصابه مرض الجدري أيام الطفولة في مدينة (مرات) أواخر الستينات الهجرية وذلك خلال فصل الصيف، وكانت بداية المرض عبارة عن حرارة وحمى شديدة وآلام في الجسم، ثم بدأت بثور الجدري بالظهور على كافة أنحاء جسمي بعدها بدأ خروج الصديد والقيح من هذه البثور، وكانت والدتي رحمها الله تُعرّضني للهواء الطلق في سطح المنزل، وبقيت مدة (40) يوماً حبيس المنزل لا أخرج أبدا، حتى شفاني الله، وكان من عادة أهالي بلدة (مرات) عند بداية انتشار المرض أن يقوموا بجمع كافة أصناع الأطعمة الموجودة في البلدة المطبوخ منها وغير المطبوخ ويتذوق المريض من هذه الأطعمة لمدة أسبوع كامل، اعتقاداً منهم أن في حالة أكل أطعمة أخرى غير التي تم تذوقها قد يعاوده المرض وتكون عواقبه وخيمة تؤدي إلى الوفاة» ا.هـ (رواية شفهية)، وتشير بعض الدراسات الحديثة التي كشف عنها الدكتور صالح الصقير استشاري الطب الباطني والباحث في تاريخ الأوبئة إلى هذا الوباء الذي أصاب الجزيرة العربية عام 1337هـ – أي قبل حوالي (100) عام – ما هو إلا (انفلونزا الخنازير) فقد تم تحليل جثة تعود إلى ذلك الوقت ووجد الفايروس (H1 N1) انفلونزا الخنازير، كما يرى بعض الباحثين أنها الحمى الإسبانية، والبعض الآخر أنه مرض الطاعون.
وقد كان للإمام عبدالعزيبن عبدالرحمن آل سعود دور بارز في مكافحة هذا الوباء، حيث قام باستدعاء الأطباء، لمعالجة المصابين، يقول بول ارميردينغ: «وصلت دعوة الدكتور بول هاريسون الثانية لزيارة الرياض ومعها إلحاح عاجل، ففي شتاء عام 1919م انتشر وباء الانفلونزا في أنحاء العالم، وحصد أرواحاً عديدة، لم يعق سعة امتداد الصحراء العربية الوباء من الوصول إلى الرياض، فعندما وصل بول هارسون إلى العاصمة كان السلطان حينها قد فقد ابنه البكر تركي وزوجته جوهرة بنت مساعد، بسبب الانفلونزا، وعلى الرغم من هذا فقد كان بول هريسون قادراً على جلب الراحة والمساعدة لعدد من المصابين، فقد شفي معظمهم» اهـ (أطباء من أجل المملكة ص47)، ورغم انشغال جلالته بحروب استعادة ملك أجداده وإخماد الفتن في ذلك الوقت، إلا أنه كان حريصاً – طيب الله ثراه – على الاهتمام بصحة مواطنيه، ففي معرض وصف هذا الاهتمام ما ذكره بول ارميردينغ عند استقبال جلالته للطبيب بول بقوله: «كان ابن سعود واقفاً في غرفة صغيرة متواضعة، قابل بول بمصافحة حارة…. أحضر خادم القهوة وخلال رشف ابن سعود فنجانه شرح أنه قد طلب قدوم الطبيب ليس للاعتناء بصحته أو صحة عائلته ولكن السبب احتياج شعبه، وأنه قد خصص منزلاً قريباً ليكون مستشفى، وكان يريد أن تتم معالجة شعبه دون كلفة مالية عليهم» ا.هـ (أطباء من أجل المملكة ص45)، ومما يؤكد حرص جلالته – رحمه الله – أنه خلال الفترة ما بين عام 1913-1955م تم استدعاء العديد من الأطباء من قِبل جلالة الملك عبدالعزيز وتم معالجة آلاف المرضى وإجراء العديد من العمليات حتى إنه في عام 1923م فقط تم معالجة (6552) مريضاً وإجراء 128 عملية جراحية كبرى، و214 عملية جراحية صغرى، وإعطاء 81 حقنة، يقول خير الدين الزركلي: «العناية بالصحة العامة في الجزيرة وفي الحجاز على الخصوص من أبرز ما عرف عن الملك عبدالعزيز، ولم يكن قبل عهده في هذه البلاد أكثر من بضع منشآت، ويمكن أن يوصف عبدالعزيز بأنه من أشد الناس شعوراً بالواجب في مثل هذا الشأن» ا.هـ (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز ص401)، وفي عام 1343هـ بدأ الجانب الصحي يأخذ شكل التنظيم الحديث حيث أنشئت (مصلحة الصحة العامة) ومقرها مكة المكرمة وتبعها فروع في جدة والمدينة المنورة والرياض والأحساء ثم منطقة عسير، ثم بعد ذلك أنشئت وزارة الصحة في عام 1370هـ وأسندت مهامها للأمير عبدالله الفيصل – رحمه الله- ومنذ ذلك الوقت ومروراً بعدأبناء المؤسس رحمهم الله جميعاً حتى هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – أصبحت المملكة تضاهي كبريات الدول في المجال الطبي، بل انفردت المملكة في عمليات فصل التوائم السياميين، وأصبحت مضرباً للمثل في هذا الشأن، وكل ذلك بفضل الله أولاً ثم بما أولاه ملوك هذه الدولة من عناية واهتمام بالجانب الصحي.