التاريخ الإسلامي
عبقرية صلاح الدين الأيوبي درس من دروس التاريخ
“صلاح الدين” اسم تردد كثيراً في صفحات الكتب وعلى ألسنة العباد، ينبعث طيفه من جديد عند كل نازلة أو احتلال الكافرين لجزء من بلادنا، ولم يقتصر الأمر على المسلمين الذين يجدون في ذكرى انتصاراته وإنجازاته أملاً يحدوهم في ظلام المشهد الذي يعيشونه اليوم، وإنما تعدى الأمر إلى انبهار الأعداء أنفسهم بعبقريته، سواء القادة منهم أو المفكرين أو حتى العوام وتسابقت فيه أقلام المستشرقين يثنون عليه ويطيلون الاهتمام رغم الحقد الذي تلوكه ألسنتهم ولا ينفك يظهر في كتاباتهم عن تاريخ المسلمين في كل زمان.
ولأن كتابات المستشرقين كانت لدراسة واقعنا وفهمه وفق معتقداتهم وبما يسمح لهم بضربنا من الداخل وتفتيت أي قوة يمكننا الاستناد إليها للوقوف من جديد، نجد التأمل في بعض أقوالهم يساعد في إدراك مكامن قوتنا، كما في قول المستشرق البريطاني هاملتون جب الذي قدم تشخيصاً لحال الأمة يدعو للتفكر ليس لوصفه الذي نعرف سببه الأول وهو الإسلام بل بسبب ذكره لاسم صلاح الدين بطريقة تستحق الاستفهام، حيث قال: “إن الحركات الإسلامية تتطور عادة بصورة مذهلة تدعو إلى الدهشة، فهي تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ما يدعوهم إلى الاسترابة في أمرها، فالحركات الإسلامية لا ينقصها إلا وجود الزعامة، لا ينقصها إلا ظهور صلاح الدين جديد”.
فلماذا صلاح الدين دون غيره من عمالقة في تاريخ الإسلام، هو الذي يبُعث طيفه من جديد عند الحديث عن المقاومة والجهاد، أو نهضة الأمة وعودة المجد للإسلام في عصرنا الحديث، رغم المسافة التي تبعد بيننا وبينه إلى أواخر القرن السادس للهجرة (القرن 12 ميلادي)، لماذا نجد اسمه في قلب كل مسلم وذاكرة كل غربي ممن عرفوا عبقريته، مهما غبرت السنون!.
لماذا صلاح الدين؟
ما يدفعنا لتسليط الضوء على صلاح الدين، أنه عاش في فترة الحملات الصليبية الأولى وسطر إحدى ملاحم التاريخ الكبرى في العالم، ولا نعيش اليوم إلا امتدادا لتك الحملات وإن تعددت مظاهرها وأشكالها وتغيرت أسبابها وأسماءها، فهي ذات الحملات التي لا زالت تعمل على تعميق الوجود الغربي النصراني وهيمنته على شواطئ العالم الإسلامي.
وربما ما يجعل التعلق أوثق بصلاح الدين، أن القدس ثالث الحرمين التي حررها بتفانيه وجهاده، وقعت من جديد تحت وطأة الاحتلال، ثم لم تزل النوازل تحل بديار المسلمين ويذكرنا أعداءنا بمدى تأثير صلاح الدين في نفسياتهم، فهذا القائد البريطاني إدموند ألنبي يعلن خلال الحرب العالمية الأولى، قائلا: “اليوم انتهت الحروب الصليبية” ويرفع سيفه نحو تمثال لصلاح الدين الأيوبي بعد احتلال دمشق.
وذاك القائد الفرنسي هنري غورو بعد أن دخل المدينة في شهر يوليو من سنة1920م، ركل قبر صلاح الدين الأيوبي وهو يصيح “استيقظ يا صلاح الدين، قد عدنا، تواجدي هنا يكرس انتصار الصليب على الهلال”.
ثم يكفي النظر في حال الأمة في زمان صلاح الدين وفي زماننا، سنجد العديد من نقاط التقاطع بين الواقعين، لقد كانت الأمة ممزقة، مقطعة دويلات وإمارات، تماماً مثل حالنا اليوم، ينفرد كل حاكم فيها برأيه ومصالحه ومع انقسامها تشتت أهل العلم وتفرقوا في الأمصار وبين السجون والأغلال، واحتل اليهود القدس وكامل فلسطين كما احتلها قبلهم الصليبيين، ولا زال الحال أسوء بصعود رافضي يريد أن يعيد عصر الفاطميين من جديد وصليبيون يعيثون في أرض الإسلام حرباً ونهباً ودماراً.
ولا غرابة في أن يعجب هاملتون جب بصلاح الدين فيقول: “يشكل عهد صلاح الدين أكثر من مجرد حادثة عابرة في تاريخ الحروب الصليبية، فهو يمثل إحدى تلك اللحظات النادرة والمثيرة في التاريخ البشري… استطاع صلاح الدين أن يتغلب على جميع العقبات لكي يخلق وحدة معنوية برهنت أن لها من القوة ما يكفي القول للوقوف بوجه التحدي من الغرب”.
نعم ففي هذه اللحظات المثيرة تعاونت الظروف السائدة مع مناقب صلاح الدين نفسها في خلق البطل لتلك الفترة، ولعل هذا السبب هو الذي يجعل الكثير من المسلمين اليوم يحلمون بطيف صلاح الدين الجديد يجوس خلال الديار ويفتح الفتح المبين.
ماذا فعل صلاح الدين؟
قاد صلاح الدين مرحلة هامة جداً لاستعادة القدس، يسميها بعضهم مرحلة الاسترداد، وقد استند في هذا المشروع الضخم إلى إقامة دولة إسلامية موحدة تمتد من ليبيا إلى اليمن إلى الشام. وتحقق له الحلم وفتح بيت المقدس بعد معركة تاريخية لا يزال صدى تكبيرات الانتصارات فيها يتردد إلى اليوم. هي معركة حطين.
لقد عاش صلاح الدين في أحد أخطر المراحل التاريخية التي مرت على العالم الإسلامي تتربصه جيوش الأعداء ومؤامرات الخونة واللئام فتجاوز كل العقبات وقلب موازين القوى وحقق النهاية السعيدة، لكن الصحيح أنها كانت نهاية تفاني سلسلة طويلة من أبطال المقاومة والجهاد لا يقلون بريقاً وإخلاصاً -كما نحسبهم- لدينهم وأمتهم، أمثال القائد نور الدين زنكي، والذين كانوا يكبرون مع الأيام وتعاكسهم الظروف إلى أن جاء صلاح الدين يتمتع بالصفات التي كانت تحتاجها تلك الفترة العصيبة، وقدم نموذج المجاهد الذي بمثله يحقق ما حقق.
أعمدة تقوم عليها قبة النصر
اعتمد صلاح الدين على مفهومين أساسيين لبناء قبة النصر، الأول هو إيمانه المطلق في أن الجهاد هو الحل، والثاني، إدراكه التام أن الأمر لن يتم بدون توحيد الجبهة الإسلامية التي كانت مفككة متفرقة آنذاك، وهما ذات المفهومان اللذان انطلق منهما نور الدين زنكي ولكن الموت قطع عليه طريق العطاء.
البداية: توحيد الجبهة الإسلامية
وقد بدأت عملية توحيد الجبهة الإسلامية بأول خطوات عمل عليها عماد الدين زنكي بعد أن تولى الموصل – ذات الأهمية الاستراتيجية التي فاقت بغداد في ذلك الزمان- وتولى معها عملية الجهاد وجمع إمارتي الموصل وحلب، فتمكن من توحيد الجبهة الإسلامية في الشام، ومشى بعدها الخطوة الأولى في المشروع الضخم لاقتلاع الاحتلال الصليبي، بتدمير أول إمارة لهم هي إمارة الرها، ويرجع المؤرخون فترة عماد الدين كبداية فترة التوازن مع القوى الصليبية والتي لم يكن ليحققها لولا أنه استند إلى المشاعر الدينية التي أوقد شعلتها العلماء والوعاظ في الناس، وتزاحمت الجماهير على أعتاب المساجد كما جرى في بغداد سنة 505 ه، حين كسر الصاخبون الباكون المنبر واستجاروا بنخوة الخليفة والسلطان السلجوقي، وبنفس الطريقة استجاب المسلمون في بلاد الشام وخرج أهل حلب نساءً ورجالاً وصبياناً سنة 532 ه ودخلوا المساجد ومنعوا الناس من الصلاة، مطالبين بالجهاد حتى كسروا المنابر!.
وقام العلماء بدورهم في الدعوة والتحريض حتى أصبح الجهاد عقيدة متينة لدى الجماهير، وكذلك فعل الشعراء، ولكن لم ينجح عماد الدين في إتمام مشروعه في توحيد الجبهة الإسلامية بالشكل المطلوب واستلم بعد اغتياله الراية ولداه.
حكمة نور الدين
وفي وقت توقع فيه الأعداء اشتعال الحرب بين الوريثين، كان الابن العاقل نور الدين يحمل من الذكاء والحكمة الشيء الكثير، وسارع بوصال أخيه يتألفه ويطالبه بتوحيد الكلمة، كان ذلك في وقت انقسمت فيه المملكة بينهما إلى شطرين وانهار محور الموصل حلب الذي أقامه والدهما واستند إليه، ولكن بفضل كياسة نور الدين التي قادته إلى إدراك أهمية الوحدة مع أخيه وكسب الموصل كعمق استراتيجي له وسند، كان لهذه الوحدة وهذا الاستقرار الأثر الكبير في توازن المنطقة، وتكفي غايته من هذا كله أن قال يوماً لأخيه: ” حتى تعلم الملوك والفرنج اتفاقنا”.
وتلألأت مرحلة نور الدين بالنجاحات، وأفشل الحملة الصليبية آنذاك وانطلق يعمل على توحيد الجبهة الإسلامية واضعا نصب عينيه هدفا تحرير القدس بل حتى أنه أعد منبرا للمسجد الأقصى تيمنا بفتحه والخطبة فيه.
واقع مشابه
ولعل من المشاهد التي نعيشها اليوم، ما عاشه أهل دمشق في ذلك الزمان وما شعروا به من خزي وعار في تحالف أمرائهم مع الصليبيين ودفع الجزية لهم وفي رؤيتهم يدخلون البلاد ويخرجون بالأموال بكل حرية ودون أدنى سؤال، وكانت حجة الأمراء آنذاك أن هذا أفضل من أن يهاجم نور الدين دمشق ويستولي عليها، وهو ما نعيشه اليوم من واقع مرير مع حكومات تقتات على رضا الغرب وتدفع له الجزية والقرابين، وتقطع الطريق على كل صالح كي لا يصل إلى سدة الحكم.
فزادت هذه الذلة من الأمراء للصليبيين في الهوة بينهم وبين الجماهير وكان هذا هو السبب الأول وراء مراسلة أهل دمشق ورجالاتها لنور الدين يستنجدون به ويشكون له ظلم هؤلاء الصليبيين وكذلك فعل أهل حوران، فكتب نور الدين إلى “أنر” ملك دمشق يعرض مساعدته له لدفعهم عنهم، فكان الرد البائس من صغير نفس: ليس بيننا وبينك إلا السيف.
وتردد نور الدين في أخذ دمشق خوفاً من أن يستجير ملكها بالصليبيين. فكان يتعامل معه بالدبلوماسية الهادئة حتى سقطت عسقلان، فلم يجد من بد إلا إتمام مشروعه في توحيد الجبهة الإسلامية، وساعده في فتح دمشق أهلها، الذين تعاونوا مع جنده في فتح الأبواب. وكان دخول نور الدين عرساً كبيراً وبهجة وسرور عند الأهالي كما العلماء.
وربط بهذا نور الدين شمال الشام بجنوبه، وانتقل مركز الثقل إلى محور حلب دمشق وبقيت الموصل عمقاً استراتيجياً، وجعل هذه الأرض الممتدة كاملة بيده وتحت حكمه الواحد، وهي تقع في مقابل الإمارات الصليبية الثلاث على الساحل.
جبهة مصر
ثم جاءت نور الدين الفرصة النادرة لدخول مصر حين وصله في دمشق الوزير الفاطمي “شاور” ليستنجد به ضد خصمه ضرغام ويُطمعه بملك مصر وبدفع ثلث دخلها وبأن يكون نائبه فيها، وبعد استخارة وتفكير، عهد نور الدين بهذه المهمة الصعبة إلى أبرز قواده أسد الدين شيركوه شقيق نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوسف، وبدأت منذ تلك اللحظة ملحمة صلاح الدين بعد أن انتقل إلى مصر في رفقة عمه.
صلاح الدين الأيوبي
بطلنا اسمه يوسف ولقب بصلاح الدين، هو سليل أشرف الأكراد، الهكارية الروادية، كما قال ابن الأثير: “وهذا النسل من أشرف الأكراد”، كانت دروس صلاح الدين الأولى التي تلقاها، القراءة والكتابة والقرآن الكريم، وشيء من الفقه والعلوم الإسلامية وتاريخ الرسالة، كما تلقى فنون الفروسية والقتال وركوب الخيل واستخدام السيف والتمرس بفنون الحرب وألعابها.
ومع اشتداد عوده، تردد على دور العلم والشيوخ وأتقن أكثر فنون الفروسية وبرع في لعبة الجوكان وهي تقاذف كرة من الخشب بمضارب طويلة واللاعبون على ظهور الخيل وقد ذكر أنه كان يلعبها في مرج دمشق مع نور الدين بعد فتحها، ولا شك أن مرافقته لنور الدين تركت في ذاته الأثر الحاسم، فقد أخذ عنه أصول الإدارة والعدل في الناس، والإيمان بفريضة الجهاد ضد أعداء الإسلام والمحتلين لأرضه.
تحركات صلاح الدين
دخل صلاح الدين الجو السياسي من بابه الأوسع، والجو في غاية الاعتراك والتعقيد والترقب، وميزان القوى بين الجبهة الإسلامية الناشئة وبين الصلبيين قابل لكل احتمال، لا سيما وأن الجبهة المصرية الفاطمية كانت تعاني من الفوضى والضعف الشديد، والمراقبون من الصليبيين والمسلمين مع نور الدين، ينظرون بعين القلق إلى تطوراتها، الأوائل يطمعون في الاستيلاء عليها لضمان استقرارهم ونور الدين يخشى على الجناح الاسلامي الثاني أن ينهار ويحتله الصليبيون. فيستبدوا بالأرض الإسلامية وبالتجارة الدولية ويصبح من الصعب اقتلاعهم من المشرق الإسلامي.
الانعطافة التاريخية
وتطورت الأحداث على محور الزمن وتسارعت معها المتغيرات، وعمد شاور للتحالف مع الصليبيين وإدخالهم إلى مصر فأرسل له نور الدين، أسد الدين شيركوه فقلته، وحينها أسند الخليفة العاضد الفاطمي الذي كان مجرد خليفة شكلي لا صلاحيات له تماماً كما كان حال الخليفة العباسي، أسند الوزارة إلى أسد الدين شيركوه وبعد وفاته انتقلت ليد صلاح الدين على عمر يناهز 32 سنة، ومنذ ذلك التاريخ بدأ صلاح الدين في إحداث تغييرات كبرى في مصر.
ولا يمكننا تلخيص براعة صلاح الدين في تحويل مصر إلى الجبهة الإسلامية لأهل السنة في هذا المقام، ولكن عبقريته السياسية والعسكرية برزت بجلاء في هذه الحقبة، وكانت النتيجة مبهرة.
قال صلاح الدين لصديقه ابن شداد في تلك الفترة: “لما يسر الله لي الديار المصرية علمت أنه أراد فتح الساحل (الشامي) لأنه أوقع في نفسي ذلك”.
وحين رأى صلاح الدين أنه أصبح يمتلك من القوة ما يمكنه من تحقيق مشاريعه وفق فكره وعقيدته وأنه يمكنه الاعتماد على قوتين، القوة العسكرية التي تجمعت حوله من الشام خاصة، ومن مصر، وقوة الجماعات السنية التي كانت مبعدة عن نظام الحكم وتعتبره زيغاً، وتحمل الرضا لأداء صلاح الدين وعمله وقبل ذلك عقيدته.
بدأ عطاء تلك الروح المهمومة التي يحملها جسد لا يفتر والتي لم تنقطع عن التفكير والتدبير للجماعة الفاطمية، مع العلم أنها لم تكن – الجماعة- بالهينة لا في العدد ولا في النفوذ، ولا سيما في الجيش الفاطمي، وعمل صلاح الدين على تقوية أهل السنة ونشر المذهبين الشافعي والمالكي اللذين كانا السائدين قبل استفحال أمر الفاطميين.
ويمكن القول أن الأمر تم في مصر لصلاح الدين بعد إحباطه خطة الفاطميين في التعاون مع الصليبيين للتخلص منه، فقام بقتل رئيسهم عند أول فرصة، وكان اسمه جوهر مؤتمن الدولة، وضايق صلاح الدين على عصب الفاطميين، حتى اضطروا لطلب الأمان فيما يعرف بواقعة العبيد، وكان هذا الانقلاب مصيري حاسم في حكم مصر، وانهار بذلك الجدار العسكري المذهبي الذي كان أمام صلاح الدين وتحجم نفوذ الفاطميين.
ثم النتيجة ماتت الخلافة الفاطمية في صمت وتغيرت بذلك مصائر البلاد، ومن الله على صلاح الدين بعد ذلك بالنصر في معركة دمياط وهزم الصليبيين والبزنطيين، وأصبح رجل الساعة.
يقول ابن المقفع:”إن الملك صلاح الدين عامل رعيته في بلاد مصر بخير يعجز الواصف عن وصفه وأرسى العدل وأحسن إلى المصريين وأزال مظالم كثيرة على الناس وأمر بإبطال الملاهي في بلاد مصر وأبطل كل منكر شرير وأقام حدود شريعة الإسلام، وكان يجلس للحكم بين الناس فينصف المظلوم من الظالم ويكون في مجلسه مجموعه من الفقهاء ومشاهير الدولة للنظر في القضايا بين الناس والعمل بما توجبه أحكام الشريعة والحق والعدل”.
ثم انتقل إلى مرحلة تأمين الطريق بين مصر والشام، وفي ذات الوقت عمل على ضمان ولاء الناس له في مصر بعد إلغاء الخلافة الفاطمية والإعلان عن الخلافة العباسية بأمر من نور الدين والذي تم في أول جمعة من محرم سنة 567 ه، سبتمبر 1171 م في جو من الاستعداد بعد أن هيأ صلاح الدين للأمر أسبابه من حراسة وترقب. ولكن العاضد توفي قبل أن يعلم عن الأمر شيئا بسبب مرضه الذي أقعده.
في هذه المرحلة وافت المنية القائد الفذّ نور الدين زنكي وانطلق تلميذه القائد والسياسي البارع صلاح الدين يشق عنان الأرض ليجمع مصر وسوريا والحجاز وتهامة والعراق في دولة إسلامية موحدة قوية تحيط بمملكة بيت المقدس والإمارات الصليبية من الشمال والشرق والجنوب، شديدة الوحدة والتماسك.
المرحلة الثانية
ثم انتقل إلى المرحلة الثانية من مخططه وهي محاربة الصليبيين وطردهم من البلاد حينما قام أرناط آل شاتيون صاحب الكرك باعتراضه لقافلة للمسلمين فأعمل فيها قتلاً ونهباً وغدراً ثم رفض الاستجابة لمطالب صلاح الدين بإطلاق الأسرى وإرجاع الأموال، فقدم الفرصة لصلاح الدين باستدعاء الجنود لحرب أرناط، ومنذ ذلك التاريخ وصلاح الدين يعمل على حرب الصليبيين وإجلاءهم من ديار المسلمين وهو من نصر إلى نصر، حتى منّ الله عليه بواقعة حطين الشهيرة في 583 هـ-1187م، وفتح بجيشه مدينة القدس، وأطاح بالصليبيين، الذين كانوا قد استولوا على المدينة قبل 88 سنة خلال الحملة الصليبية الأولى، وبهذا تم لصلاح الدين الأمر، بعد توحيد الجبهة الإسلامية، ففتح بيت المقدس واسترجع المسجد الأقصى وطهره من رجس الصليبين الذين دنسوه بدناءة أخلاقهم وبلادة أحقادهم.
ملامح ميزت شخصيته
لقد كان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد عظيم الاهتمام به، بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلته ولا كان له اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا لمن يذكره..، ويقول ابن شداد: (ما رأيته استكثر العدو أصلاً ولا استعظم أمرهم قط).
وهو ذاته ابن شداد رفيق صلاح الدين إلى آخر أيامه الذي نقل عنه قوله: في نفسي أنه متى ما يسر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد وأوصيت وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.
وكان يقول: غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات، أما ابن الأثير فقال: إنه كان رحمه الله كريما حليما حسن الأخلاق متواضعا صبورا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه”.
رحيله
وفي سنة (589هـ) اشتد به المرض فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ: ﴿لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ تبسم، وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه، ومات رحمه الله وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، وغلقت الأسواق، وأخذ الناس في البكاء”.
ورحل صلاح الدين بعد أن أسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن تحت راية الخلافة العباسية، وبعد أن قضى على الخلافة الفاطمية التي استمرت بظلامها 262 سنة. وبعد أن أعاد لنا المسجد الأقصى معززا مكرما وزينه بمنبر نور الدين الزنكي وفاء بالعهد.
رحل وترك الجميع يرْثونه ويعترفون له بالعبقرية بما فيهم الأعداء، من بينهم فيلهلم الثاني إمبراطور ألمانيا الذي زار دمشق وتوجه إلى مدفن صلاح الدين ووضع باقة زهور جنائزية على قبره عليها نقش معناه “ملك بلا خوف ولا ملامة، علّم خصومه الفروسية الحقيقية”.
فمن أراد أن يبحث عن أسباب النصر عليه أن يهيئ له قادة نجباء يقومون بأثقاله، وكذلك للجماهير دور لا يقل أهمية عن القيادات، حين تُدفع دفعا بدفة الجهاد ولا تقبل القعود أو الخذلان وتفرض مطالبها فرضا أمام الأمراء.
ولا شك في أن الظروف الراهنة ستسمح بصناعة شخصيات بقامات سامقة من العطاء والبذل والمنافسة تغيّر موازين القوى وتنقلنا من الضعف للقوة، ولكن، إلى أن يخرج لنا صلاح الدين الجديد، وإلى أن يمنّ الله علينا بجماهير تصنع الأحداث وتسّيرها بإرادة شمّاء، علينا أن نطيل الابتهال وسؤال الله من فضله العظيم.